سورة الفرقان - تفسير تفسير القرطبي

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (الفرقان)


        


{انْظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الْأَمْثالَ فَضَلُّوا فَلا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلاً (9) تَبارَكَ الَّذِي إِنْ شاءَ جَعَلَ لَكَ خَيْراً مِنْ ذلِكَ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ وَيَجْعَلْ لَكَ قُصُوراً (10)}
قوله تعالى: {انْظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الْأَمْثالَ} أي ضربوا لك هذه الأمثال ليتوصلوا إلى تكذيبك. {فَضَلُّوا} عن سبيل الحق وعن بلوغ ما أرادوا. {فَلا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلًا} إلى تصحيح ما قالوه فيك. قوله تعالى: {تَبارَكَ الَّذِي إِنْ شاءَ جَعَلَ لَكَ خَيْراً مِنْ ذلِكَ جَنَّاتٍ} شرط ومجازاة، ولم يدغم {جَعَلَ لَكَ} لان الكلمتين منفصلتان، ويجوز الإدغام لاجتماع المثلين. {وَيَجْعَلْ لَكَ} في موضوع جزم عطفا على موضع {جَعَلَ}. ويجوز أن يكون في موضع رفع مقطوعا من الأول. وكذلك قرأ أهل الشام. ويروى عن عاصم أيضا: {ويجعل لك} بالرفع، أي وسيجعل لك في الآخرة قصورا. قال مجاهد: كانت قريش ترى البيت من حجارة قصرا كائنا ما كان. والقصر في اللغة الحبس، وسمي القصر قصرا لان من فيه مقصور عن أن يوصل إليه.
وقيل: العرب تسمى بيوت الطين القصر. وما يتخذ من الصوف والشعر البيت. حكاه القشيري.
وروى سفيان عن حبيب بن أبى ثابت عن خيثمة قال: قيل للنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إن شئت أن نعطيك خزائن الدنيا ومفاتيحها ولم يعط ذلك من قبلك ولا يعطاه أحد بعدك، وليس ذلك بناقصك في الآخرة شيئا، وإن شئت جمعنا لك ذلك في الآخرة، فقال: {يجمع ذلك لي في الآخرة} فأنزل الله عز وجل: {تَبارَكَ الَّذِي إِنْ شاءَ جَعَلَ لَكَ خَيْراً مِنْ ذلِكَ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ وَيَجْعَلْ لَكَ قُصُوراً}. ويروى أن هذه الآية أنزلها رضوان خازن الجنان إلى النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وفي الخبر: إن رضوان لما نزل سلم على النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ثم قال: يا محمد! رب العزة يقرئك السلام، وهذا سفط- فإذا سفط من نور يتلألأ- يقول لك ربك: هذه مفاتيح خزائن الدنيا، مع أنه لا ينقص مالك في الآخرة مثل جناح بعوضة، فنظر النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلى جبريل كالمستشير له، فضرب جبريل بيده الأرض يشير أن تواضع، فقال: «يا رضوان لا حاجة لي فيها الفقر أحب إلى وأن أكون عبدا صابرا شكورا». فقال رضوان: أصبت! الله لك. وذكر الحديث.


{بَلْ كَذَّبُوا بِالسَّاعَةِ وَأَعْتَدْنا لِمَنْ كَذَّبَ بِالسَّاعَةِ سَعِيراً (11) إِذا رَأَتْهُمْ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ سَمِعُوا لَها تَغَيُّظاً وَزَفِيراً (12) وَإِذا أُلْقُوا مِنْها مَكاناً ضَيِّقاً مُقَرَّنِينَ دَعَوْا هُنالِكَ ثُبُوراً (13) لا تَدْعُوا الْيَوْمَ ثُبُوراً واحِداً وَادْعُوا ثُبُوراً كَثِيراً (14)}
قوله تعالى: {بَلْ كَذَّبُوا بِالسَّاعَةِ} يريد يوم القيامة. {وَأَعْتَدْنا لِمَنْ كَذَّبَ بِالسَّاعَةِ سَعِيراً} يريد جهنم تتلظى عليهم. {إِذا رَأَتْهُمْ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ} أي من مسيرة خمسمائة عام. {سَمِعُوا لَها تَغَيُّظاً وَزَفِيراً} قيل: المعنى إذا رأتهم جهنم سمعوا لها صوت التغيظ عليهم.
وقيل: المعنى إذا رأتهم خزانها سمعوا لهم تغيظا وزفيرا حرصا على عذابهم. والأول أصح، لما روى مرفوعا أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم قال: «من كذب على متعمدا فليتبوأ بين عيني جهنم مقعدا. قيل: يا رسول الله! ولها عينان؟ قال: أما سمعتم الله عز وجل يقول: {إِذا رَأَتْهُمْ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ سَمِعُوا لَها تَغَيُّظاً وَزَفِيراً} يخرج عنق من النار له عينان تبصران ولسان ينطق فيقول وكلت بكل من جعل مع الله إلها آخر فلهو أبصر بهم من الطير بحب السمسم فيلتقطه» في رواية«فيخرج عنق من النار فيلتقط الكفار لقط الطائر حب
السمسم» ذكره رزين في كتابه، وصححه ابن العربي في قبسه، وقال: أي تفصلهم عن الخلق في المعرفة كما يفصل الطائر حب السمسم من التربة. وخرجه الترمذي من حديث أبى هريرة قال قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. «يخرج عنق من النار يوم القيامة له عينان تبصران وأذنان تسمعان ولسان ينطق بقول إنى وكلت بثلاث بكل جبار عنيد وبكل من دعا مع الله إلها آخر وبالمصورين».
وفي الباب عن أبى سعيد قال أبو عيسى: هذا حديث حسن غريب صحيح.
وقال الكلبي: سمعوا لها تغيظا كتغيظ بنى آدم وصوتا كصوت الحمار.
وقيل: فيه تقديم وتأخير، سمعوا لها زفيرا وعلموا لها تغيظا.
وقال قطرب: التغيظ لا يسمع، ولكن يرى، والمعنى: رأوا لها تغيظا وسمعوا لها زفيرا، كقول الشاعر:
ورأيت زوجك في الورى *** متقلدا سيفا ورمحا
أي وحاملا رمحا.
وقيل: {سَمِعُوا لَها} أي فيها، أي سمعوا فيها تغيظا وزفيرا للمعذبين. كما قال تعالى: {لَهُمْ فِيها زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ} و{في واللام} يتقاربان، تقول: أفعل هذا في الله ولله. قوله تعالى: {وَإِذا أُلْقُوا مِنْها مَكاناً ضَيِّقاً مُقَرَّنِينَ} قال قتادة: ذكر لنا أن عبد الله كان يقول: إن جهنم لتضيق على الكافر كتضييق الزج على الرمح، ذكره ابن المبارك في رقائقه. وكذا قال ابن عباس، ذكره الثعلبي والقشيري عنه، وحكاه الماوردي عن عبد الله بن عمرو. ومعنى {مُقَرَّنِينَ} مكتفين، قاله أبو صالح.
وقيل: مصفدين قد قرنت أيديهم إلى أعناقهم في الاغلال.
وقيل: قرنوا مع الشياطين، أي قرن كل واحد منهم إلى شيطانه، قاله يحيى بن سلام. وقد مضى هذا في إبراهيم وقال عمرو بن كلثوم:
فأبوا بالنهاب وبالسبايا *** وأبنا بالملوك مقرنينا
{دعوا هنالك ثبورا} أي هلاكا، قاله الضحاك. ابن عباس: ويلا.
وروى عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه قال: «أول من يقوله إبليس وذلك أنه أول من يكسى حلة من النار فتوضع على حاجبيه ويسحبها من خلفه وذريته من خلفه وهو يقول وا ثبوراه». وانتصب على المصدر، أي ثبرنا ثبورا، قاله الزجاج.
وقال غيره: هو مفعول به. قوله تعالى: {لا تَدْعُوا الْيَوْمَ ثُبُوراً واحِداً وَادْعُوا ثُبُوراً كَثِيراً} فإن هلاككم أكثر من أن تدعوا مرة واحدة. وقال: ثبورا لأنه مصدر يقع للقليل والكثير فلذلك لم يجمع، وهو كقولك: ضربته ضربا كثيرا، وقعد قعودا طويلا. ونزلت الآيات في ابن خطل وأصحابه.


{قُلْ أَذلِكَ خَيْرٌ أَمْ جَنَّةُ الْخُلْدِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ كانَتْ لَهُمْ جَزاءً وَمَصِيراً (15) لَهُمْ فِيها ما يَشاؤُنَ خالِدِينَ كانَ عَلى رَبِّكَ وَعْداً مَسْؤُلاً (16)}
قوله تعالى: {قُلْ أَذلِكَ خَيْرٌ أَمْ جَنَّةُ الْخُلْدِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ}. إن قيل: كيف قال: {أَذلِكَ خَيْرٌ} ولا خير في النار، فالجواب أن سيبويه حكى عن العرب: الشقاء أحب إليك أم السعادة، وقد علم أن السعادة أحب إليه.
وقيل: ليس هو من باب أفعل منك، وإنما هو كقولك: عنده خير. قال النحاس: وهذا قول حسن، كما قال:
فشركما لخير كما الفداء ***
قيل: إنما قال ذلك لان الجنة والنار قد دخلتا في باب المنازل، فقال ذلك لتفاوت ما بين المنزلتين.
وقيل: هو مردود على قوله: {تَبارَكَ الَّذِي إِنْ شاءَ جَعَلَ لَكَ خَيْراً مِنْ ذلِكَ} الآية.
وقيل: هو مردود على قوله: {أَوْ يُلْقى إِلَيْهِ كَنْزٌ أَوْ تَكُونُ لَهُ جَنَّةٌ يَأْكُلُ مِنْها}.
وقيل: إنما قال ذلك على معنى علمكم واعتقادكم أيها الكفار، وذلك أنهم لما كانوا يعملون عمل أهل النار صاروا كأنهم يقولون إن في النار خيرا. قوله تعالى: {لَهُمْ فِيها ما يَشاؤُنَ} أي من النعيم. {خالِدِينَ كانَ عَلى رَبِّكَ وَعْداً مَسْؤُلًا} قال الكلبي: وعد الله المؤمنين الجنة جزاء على أعمالهم فسألوه ذلك الوعد فقالوا: {رَبَّنا وَآتِنا ما وَعَدْتَنا عَلى رُسُلِكَ}. وهو معنى قول ابن عباس.
وقيل: إن الملائكة تسأل لهم الجنة، دليله قوله تعالى: {رَبَّنا وَأَدْخِلْهُمْ جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدْتَهُمْ} الآية. وهذا قول محمد ابن كعب القرظي.
وقيل: معنى {وَعْداً مَسْؤُلًا} أي واجبا وإن لم يكن يسأل كالدين، حكى عن العرب: لأعطينك ألفا.
وقيل: {وَعْداً مَسْؤُلًا} يعني أنه واجب لك فتسأله.
وقال زيد بن أسلم: سألوا الله الجنة في الدنيا ورغبوا إليه بالدعاء، فأجابهم في الآخرة إلى ما سألوا وأعطاهم ما طلبوا. وهذا يرجع إلى القول الأول.

1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8